السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التدابير الوقائية لحفظ كيان الأسرة
يقصد المنهج الإسلامي قصدا إلى بناء الإنسان الصالح، ومن أجل ذلك شرع له
الشرائع، وحد له الحدود، ووضح له الحلال، وفصل له الحرام، وحفظ له عرضه
وشرفه وكرامته.
ولا شك أن تكوين الأسرة الصالحة ثمرة حقيقية لإيجاد هذا الإنسان الصالح،
تلك الأسرة التي تعتبر- بحق- لبنة لها شأنها وبأسها في بناء مجتمع صالح،
يؤمن بقيم الترقي والتقدم، ويأخذ بمعالم التحضر، ويحافظ على سلامته وصفائه
ونقائه وحريته، فلا غرو أن ينظر الإسلام إلى الأسرة نظرة خاصة، فيبين
منهجه في بنائها والمحافظة عليها، وأهدافه منها، ويضع الحلول المناسبة لكل
مشكلاتها، ويشرع التدابير الوقائية والتنظيمات الحافظة التي تقيها من
الوقوع فيما لا تحمد عقباه، أو يصل بها إلى طريق مسدود.
إقامة الأسرة من مقاصد الإسلام
كما يبتغي الإسلام بناء الإنسان الصالح روحيا وعقليا وبدنيا ووجدانيا،
كذلك من مقاصده الكبرى إقامة الأسرة الصالحة التي هي ثمرة واضحة لبناء
الفرد الصالح، والتي يناط بها تحقيق عمارة الأرض وتكوين المجتمع، وليس هذا
مجرد كلام يلقى هنا أو هناك، بل استنباط من استقراء النصوص الشرعية في
القرآن والسنة.
فقد رغب الإسلام في الزواج في نصوص عديدة، حسبنا منها قوله تعالى {وأنكحوا
الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من
فضله} (النور: 32) ولا يخفى ما في الآية من الترغيب هنا، فقد وعد الله
تعالى المتزوجين بالغنى من فضله، وهذا مشاهد ومحسوس في الواقع لكل من أقبل
على الزواج أو تزوج، والله لا يخلف الميعاد، وقول النبي (صلى الله عليه
وسلم) فيما رواه مسلم بسنده عن عبدالله قال: قال لنا رسول الله (صلى الله
عليه وسلم): «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (1)، كما لا
يخفى هنا أيضا الترغيب، حيث بين ثمرات الزواج ومقاصده بأنه أغض للبصر
وأحصن للفرج وأذهب للشهوة وأهدأ للنفس.
وقاوم الإسلام أفكارا منحرفة عارضت الزواج، منها أنه لا رهبانية في
الإسلام، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) رد الرهبانية على من ترهبن، فقد
روى مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاص قال: «رد رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا» (2)
كل هذه الأمور التي شرعها الإسلام يُستنبط منها ومن غيرِها أن من مقاصد
الإسلام الكبرى إقامة الأسرة الصالحة التي تقيم- من ثم- المجتمع الصالح،
وقد قال ابن عاشور في المقدمة الرابعة من تفسيره: «وأما الصلاح الجماعي
فيحصل أولا من الصلاح الفردي؛ إذ الأفراد أجزاء المجتمع ولا يصلح الكل إلا
بصلاح أجزائه» (3).
وترغيب الإسلام في الزواج ونهيه عما يعارضه أو يصد عن سبيله هو من باب
الحفاظ على الأسرة من ناحية الإيجاد كما يقول علماء المقاصد، أما حفظ
الأسرة من العدم فقد شرع له الإسلام أمورا كذلك، منها بيان حقوق الزوجة
وحقوق الزوج، وكيفية معاملة الزوجة لزوجها، والزوج لزوجته، وحقوق المعاشرة
بينهما، وغير ذلك مما سيأتي مزيد بيان عنه.
مقاصد الإسلام من الزواج
1- تحقيق عمارة الله في الأرض، قال تعالى {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم
فيها} (هود: 61) فبالزواج يأتي النسل وبه تتحقق العمارة، وقد ذكر الراغب
الأصفهاني أمورا لأجلها أوجد الله الإنسان، وذكر عمارة الأرض أولها(4).
2- تحقيق السكن النفسي، والإشباع الجنسي، والتراحم بين الزوجين، وهو ما
ذكره الله تعالى في قوله 444ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا
لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21) وقال سبحانه: 444هو
الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} (الأعراف: 189)،
فأراد الله تعالى «أن يكون هذا اللقاء سكناً للنفس، وهدوءا للعصب،
وطمأنينة للروح، وراحة للجسد، ثم ستراً وإحصاناً وصيانة، ثم مزرعة للنسل
وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر في رعاية المحضن الساكن الهادئ المطمئن
المستور المصون» (5).
3- العون على غض البصر وإحصان الفرج، وهو ما جاء في حديث مسلم عن عبدالله
قال: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «يا معشر الشباب من استطاع
منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج...».
4- تحقيق الاستقرار في المجتمع نفسيا وخلقيا، وهو ما يؤدي إلى حفظ نظامه
العام، حيث إن الشهوة لها ضرام في ظهر الإنسان، وما لم يتيسر لها الطريق
لتصرف في مسارها المشروع أدى ذلك إلى سلوك طرق غير مشروعة لاسيما مع
التحلل السائد في المجتمع بصورة ملحوظة، أو يتوجه نحو كسب غير مشروع لظروف
الحياة الصعبة، مما يهدد أمن المجتمع واستقراره.
وفيما يلي نتناول باختصار مراحل الحياة الزوجية ابتداء من الخطبة وانتهاء
بالفرقة مع إبراز التدابير الوقائية والأحكام الشرعية التي حرصت كل الحرص
على إقامة هذا الكيان المهم في بناء المجتمع:
مرحلة الخطبة وما قبل الزواج
لقد شرع الله تعالى أمورا في الخطبة من أجل أن يظل الحب موصولا في الحياة الزوجية، ومن ذلك:
1- أنه شرع النظر إلى المخطوبة، وبين مقصود ذلك، فعن المغيرة بن شعبة أنه
خطب امرأة فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم
بينكما»(6). قال الكاساني «إذا أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس أن ينظر إلى
وجهها، وإن كان عن شهوة؛ لأن النكاح بعد تقديم النظر أدل على الألفة
والموافقة الداعية إلى تحصيل المقاصد»(7).
2- واستحب الإسلام أن تكون الزوجة بكرا؛ لأن ذلك أدعى إلى الود الكبير حيث
لم تعرف زوجا غيره من قبل يشغل حيزا من قلبها، وقد روى البخاري بسنده عن
جابر بن عبدالله قال: «كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة فلما
قفلنا كنا قريبا من المدينة تعجلت على بعير لي قطوف، فلحقني راكب من خلفي
فنخس بعيري بعنزة كانت معه فسار بعيري كأحسن ما أنت راءٍ من الإبل،
فالتفتُّ فإذا أنا برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت يا رسول الله
إني حديث عهد بعرس قال: أتزوجت؟ قلت: نعم، قال: أبكرا أم ثيبا؟ قال: قلت
بل ثيبا، قال: فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك. قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل
فقال: أمهلوا حتى تدخلوا ليلا- أي عشاء- لكي تمتشط الشعثة، وتستحد
المغيبة» (8).
2/654.